الصفحة الرئيسية  متفرّقات

متفرّقات صور: في ميلاده المائة.. السادات "فلاح" بحث عن ذاته فأدهش العالم بمكره.. و"رئيس" حير الساسة بدهائه واسرار عن حياته

نشر في  25 ديسمبر 2018  (21:25)

مائة عام مرت على ميلاد رجل بحث عن ذاته فوجدها أينما أبصرت عيناه، فهو داهية عسكرية وسياسي مخضرم وكاتب يجيد التلاعب بأدوات اللغة، وفنان يتقن الأدوار ببراعة، وثاقب الرؤية قادر على قراءة المستقبل، فلاح ماكر ورجل دولة من طراز فريد.
ربما من الصعب وصف الرئيس الراحل محمد أنور السادات، الذي حيّر الساسة بدهائة وكتب لنفسه تاريخًا محفورًا في سجلات العظماء، حتى لحظات موته تحولت إلى ذاكرة تاريخية رغم مأساتها.


رغم التقلبات الحياتية التي عاشها الرئيس السادات في حياته قبيل وصوله إلى سدة الحكم، إلا أنها مثلت وعاء تشكلت فيه شخصية ثرية من الصعب فهمها فالرجل الذي جالس قادة العالم لم يكن ليأبه أن يذكر في أول سطور كتابه "البحث عن الذات"، أنه "فلاح مصري"، ولم يفكر في التنصل منها بل عاش تلك الحياة وهو في أوج سلطته رئيسًا لمصر.

"أنا شاب متقدم للبكالوريا هذا العام، طويل، وسطي رفيع جدا، وصدري مناسب، وسيقاني قوية مناسبة، لوني ليس كما في الصورة لأنني أغمق من الصورة قليلاً، والآن أصف لكم الجزء العملي.. أنا متحكم في صوتي بمعنى الكلمة فتارة تجدني أقلد صوت يوسف وهبي، وتارة تجدني أقلد صوت أم كلثوم، وهذه خاصة أظنها نادرة، لي أذن موسيقية محضة، لي شعر أسود ومجعد ولكنه خشن، وبقية أعضاء وجهي كما في الصورة طيبة"، هكذا وصف السادات نفسه في معرض خطاب أرسله لشركة إنتاج سينمائية تملكها المنتجة أمينة محمد، التي طلبت وجوهًا جديدة لإحدى أفلامها في عام 1936 ولم يكن السادات بلغ سن الـ18 من عمره، ولم يدر بخلده أن فشله اللحاق بالسينما كان بداية مسار لحياة مختلفة تماما لم يكن ليدركها.

كان السادات على أولى خطوات سلمه العسكري طالب بالأكاديمية العسكرية، بالتزامن مع عرض الفيلم الذي تقدم إليه ورفض، وبدت حياته مختلفة تمامًا عما كان ينشد، إلا أن حسه الفني كان يعيش في وجدانه رغم مشاق العمل العسكري، وبدا في حديثه عن ذلك بالقول: "منذ فجر الشباب وأنا أحس بميل شديد للفن وللفنانين، بخاصة التمثيل، ولي في هذا المجال قصص كثيرة".


التحاق السادات بالعمل العسكري أورثه كثيرا من المفاهيم التي لم يكن ليدركها وهو خارجه، فحديثه عن الحزن الذي ألم به بعد تعرضه للفصل من الجيش واعتقاله لأسباب سياسية منها تواصله مع عزيز باشا المصري الذي كان أكثر ميلًا للألمان، والذي أغضب الإنجليز كثيرًا لاسيما وقت الحرب العالمية الثانية، واتهامه بالمشاركة في اغتيال أمين عثمان وزير المالية وقتها، ظهر في كلمات مقتضبة لخص فيها السادات حزنًا مكتومًا لبعده عن العمل العسكري بالقول: "كنت دائما أحس في نفسي الفخر والزهو بالجندية، إلى أن شاءت المقادير أن أطرد من الجيش ولم أكن قد خدمت سوى أربع سنوات، واعتقلت عقب طردي مباشرة، حيث أمضيت أكثر من سنتين ثم هربت من المعتقل".

لم يهنأ السادات إذن بالعمل العسكري سوى نحو أربع سنوات، وكان لطموحاته والخروج عن سياق ما هو متبع وقتها بالالتزام بأوامر الإنجليز الذين كانوا يسيطرون على مقاليد الحكم بمفرداته، بداية لحياة أكثر مأساة مما توقع، فالتنقل من سجن لآخر والعيش في زنزانة غير آدمية والمعروفة بالزنزانة 54، والتي قضى فيها أوقاتًا طويلة منفردًا، والهروب الخفي والاصطدام بواقع الحياة المر، والتفكير الملازم لرأسه في زوجته الأولى وبناته الثلاثة، كان واقعًا مرًا عايشه السادات لفترات ليست بالقليلة.


خلال فترة التخبط التي مرّ بها الحاج محمد، كما أسمى نفسه بين الناس حين كان يعمل عتالًا تارة وفاعلًا تارة أخرى وشريكًا بالأعمال الحرة بجوار صديقه حسين عزت تارة ثالثة، ثم مراجعًا صحفيًا بمجلة المصور، اكتسب السادات قدرات إضافية لشخصيته واقترب من أوجاع المواطنين وعاش حياتهم وذاق الظلم في ظلمات السجن وغياهبه، لكن الحياة عادت لتبتسم له من جديد مع حلول العام 1950 بعد عودته إلى عمله بالجيش بوساطة من زميله يوسف رشاد الطبيب الخاص بالملك فاروق.

إبان عودته للجيش كانت الأجواء لتتهيأ ليصبح السادات واحدًا من صناع القرار خلال عامين على عودته، وكان الظرف السياسي وقتها مشتعلًا على فترات متقاربة، ولم يكن للسادات الطموح أن يكون بعيدًا عن ذلك المشهد، ولم تكن لتلك الفترة العصيبة التي مرّ بها حائلًا أمام خوضه غمار السياسة التي ذاق مرارتها، بل عاد مجددًا، فكان واحدًا من مؤسسي الهيئة التأسيسية للتنظيم السري الذي عرف باسم "الضباط الأحرار" بجوار الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وزملائه عام 1951.

وكان للأحداث التي تطورت بسرعة فائقة في القاهرة، أثرها في زيادة شوكة التنظيم السري للضباط الأحرار، فكان حريق القاهرة وإلغاء حكومة الوفد لمعاهدة 1936 وإقالة حكومة النحاس باشا، أثرها على زيادة غليان الشارع المصري وبداية تحقيق هدف الضباط الأحرار بالقضاء على الفساد وشركائه، حتى هبت نسائم ثورة 1952، ليكون السادات أول خطيب لمنبر الحرية بصوته الجهور متحدثًا عن مرارة الشعب مع الفاسدين والمرتشين.


خلال فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، بدت الأجواء غير متسقة للسادات في الامتزاج مع عدد من الضباط الأحرار، وفيما يبدو أنه لم يألف العمل بجوار بعضهم طويلًا كوزير للدولة، فاختار لنفسه طريقًا آخر، سلك خلاله دروب السياسة واستطاع من خلاله أن يكون عضوًا في مجلس الأمة ثم رئيسًا له هذا قبيل عمله بالصحافة لعدة سنوات، حتى اختاره الرئيس عبدالناصر نائبًا له قبيل رحيله بعام واحد، وهو ما بسط الطريق أمامه ليكون رجل مصر الأول وتولى مقاليد الحكم.

عمل السادات في الأشهر الأولى لحكمه على تصحيح المسار والقضاء على مراكز القوى فيما عرف بـ"ثورة التصحيح"، وورث الرجل إرثًا ثقيلًا، لكنه استطاع أن يحمله حتى وصل إلى بر الأمان، فأعاد الأرض بعد ملحمة للقوات المسلحة المصرية في حرب النصر 1973، ونجح في أن يرسم معالم جديدة لنهضة مصر اقتصاديًا وانفتح على العالم تجاريًا وأعاد المنابر السياسية، وسطر معاهدة للسلام بين مصر وإسرائيل رغم معارضة كثير من الدول العربية واتهامات له بالخيانة، إلا أن معارضي تلك الخطوة أول من شهدوا له ببراعة الفكر ودهاء شخصيته، رغم أنه دفع الثمن غاليًا برصاص غادر فقد على إثره روحه وفاضت إلى بارئها.

62 عامًا عاشها السادات، طفلًا خرج من رحم أسرة فقيرة، وشابًا حياته مليئة بالغيوم، وسياسيًا بين سجين وقائد، وعسكريًا سطر ملحمة، ومؤمنًا يحب الحديث عن الله فلم يخذله، ويبدو أن كتاباته الساخرة في حياته ما كانت إلا انعكاسًا لحياة ملأتها التشابكات، ولم تكن لمجرد إطلاق النكات.


ولم يكن لعقد من الزمان هي فترة تربعه على مقاليد الحكم، أن تنسى، فخلالها عادت كرامة مصر بعودة أرضها والأخذ بثأرها، وسطر عهدًا جديدًا للبلاد، على كافة مناحي الحياة "سياسية واقتصادية واجتماعية".

وجوه السادات الكثيرة مكنته من القدرة على أداء الأدوار الموكلة إليه بحرفية بالغة، خلال فترات حياته، وكانت شخصيته التي اتسمت بالجرأة المدهشة وراءها عقل سياسي داهية وأديب يعرف كيف يغزِل فصول الرواية، ولا يمكن أن تصل لعقل رجل رأي في المرأة الأمية "أمه وجدته" سبيلًا لتكوين كينونته منذ نعومة أظفاره؟، فهو يعرف كيف يستفيد من أقل الأشياء - في نظر الكثيرين رغم كبر حجمها في نظره، ولا أن تعرف الدافع الذي يجعل العالم بقادته وسياسييه يتنافسون على تكريمه وقول كلمات الثناء بحقه، رغم مرور قرن على ميلاده، ونحو 4 عقود على وفاته.